نشأة بابلو بيكاسو
وُلِدَ الفنّان بابلو بيكاسو في مدينة مالقة الإسبانيّة في الخامس والعشرين من شهر تشرين الأوّل عام 1881م، وقد نشأ في ظلّ أسرةٍ فنيّةٍ؛ إذ كانَ والده رسامًا رأى في ابنه موهبةً مميّزةً؛ فكانَ أوّل معلمٍ فنيٍّ له، اهتمّ بموهبته وبتعليمه؛ فأخذَه في رحلةٍ إلى مدينة مدريد لرؤية الأعمال الفنيّة لأعظم فنّاني إسبانيا القديمة، وحين بلغ الحادية عشرة من عمره بدأ دراسته للفنِّ، فرسمَ عدّة لوحات فنيّة خلال فترة مراهقته لا تزال موجودةً حتى وقتنا الحالي، لعلّ أشهرها لوحة "أول (بالإنجليزيّة: First Communion) قربانة" والتي رُسِمت عام ١٨٩٥م.
انتقلت عائلة بيكاسو إلى مدينة برشلونة عام ١٨٩٥م، بسبب حصولِ والده على منصب جديد كرسّام أكاديميّ هناك، فالتحقَ بابلو بأكاديميّة الفنون المحليّة "لالوتيا" :بالإنجليزيّة.(La Llotja) في برشلونه.
وخلال سنتين استطاعَ أن يحقّق شهرةً في إسبانيا حين أنهى لوحة"العلم والإحسان" (Science and Charity) ونال بذلك تكريمًا في معرض الفنون الجميلة القائم في مدريد، وفي عام ١٩٠٠م أُقيمَ أوّل معرضٍ لأعماله الفنيّة في مدينة برشلونة، وكانَ عمره حينها لا يتجاوز التّسعة عشر عامًا، وفي ذات العام قرر بيكاسو أن يزور باريس لرؤية المتاحف عام والمعارض الفنيّة، وتكررت زيارته لها عدّة مرات حتى استقر فيها ١٩٠٤م.
أعمال بيكاسّو
خلال عام ١٨٩٧م قدّم العديد من اللوحات ذات المناظر الطبيعيّة المكونة من الألوان البنفسجيّة مع النغمات الخضراء، وقد مر بيكاسو بفترة الحداثة في مجال الرسم، والتي كانت خلال عام ١٨٨٩/١٩٠٠، وفي هذا العام سافر إلى عاصمة الفن في القارة الأوربيّة باريس عاصمة فرنسا، والتقى هناك بصديقه الباريسي والصحفي الشاعر "ماكس جاكوب" والذي ساعده كثيرًا في تعلم اللغة والأدب، وفي تلك الأثناء كان يسود الفقر الشديد، ونتيجة لذلك قام بحرق العديد من أعماله؛ من أجل الحفاظ على درجة حرارة الغرفة الصغيرة التي كان يعيش فيها مع ماكس، وخلال الأشهر الخمسة الأولى من عام ١٩٠١م عاش في العاصمة الإسبانيّة مدريد، وقام بتأسيس مجلة "أرتي خوفين" مع صديقه "فرانسيسكو دي أسيس سولي" والتي نشرت خمسة قضايا، وتم نشر العدد الأول في يوم ٣١ مارس من عام ١٩٠١م، وهي السنة التي بدأ فيها بتوثيق أعماله جراء تعاقب الحوادث البائسة عليه من الارتحال، وانتحار صديقه المقرب "كارلوس كاسيجماس".
أنتجت هذه الفترة البائسة العديد من الأعمال التي لاقت رواجًا هائلًا لا يزال إلى وقتنا هذا، فهي لم تكتفِ بعكس حالة الفقر والاكتئاب، بل جسّمت بحس بالغ المعاناة الإنسانية في مختلف مشاعر الخوف والعجز والوحدة.
وتعد اللوحة الرمزية القاتمة أبرز ما أنتجه بيكاسو في هذه الفترة؛ فهي تصوِّر عذاب صديقه الداخلي في وجه حبيب حاول قتله، بالإضافة إلى لوحة عازف القيثار المسن. (La Vie)
وتشمل الأعمال الرئيسية الأخرى بورتريه سولير، وبورتريه سيليستينا.
"يستطيع من يعتقد أنه يستطيع، ولا يستطيع من يعتقد أنه لا يستطيع، هذا قانون لا يرحم ولا جدال فيه".
*فترة الورود (١٩٠٤-١٩٠٦م)
أعقبت تلك الفترة الزرقاء فترة أكثر تعافيًا لبيكاسو؛ حيث بدأ تسليط الضوء على أعماله محققة قدرًا من النجاح، الأمر الذي ساعد بيكاسو إلى حدٍ ما في التغلب على اكتئابه.
تميزت لوحات هذه الفترة بالحيوية والفرح، فانعكس ذلك بالضرورة على أعماله الفنية في ألوانها ومواضيعها؛ حيث صوَّرت شخصيات المسرحية وشخصيات المهرجين في السيرك كستها بالألوان الزاهية والبرتقالية.
وتعد هذه اللوحات الأكثر تفاؤلًا خلال مسيرة بيكاسو مبينة بوضوح أثر التقاء بيكاسو بفنان بوهيمي يدعى "فرناندي أوليفييه".
*التأثير الإفريقي (١٩٠٧-١٩٠٩م):
تضمنت هذه الفترة من حياة الفنان قفزة نوعية في أسلوبه ورؤيته الفنية؛ حيث تمكن بيكاسو من حرية التعبير بعيدًا عن التأثيرات الفرنسية والكلاسيكية الرائجة حين ذاك، وتمكن من شقِّ مساره الفني الخاص به.
ويعود فضل هذا التغيير الذي شهده بيكاسو إلى "بول سيزان"، فبعد عام واحد من وفاة الفنان عام ١٩٠٦م وجد بابلو بيكاسو في أعماله نموذجًا لكيفية تسخير الأساسيات من الطبيعة من أجل تحقيق سطح متماسك يعبر عن رؤية الفنان الفريدة.
تزامن مع ذلك التأثير القوي الذي صبغه النحت الإفريقي التقليدي على فنانيين أوروبا في فرنسا، فبدأ "هنري ماتيس" و"بابلو بيكاسو" وأصدقاؤهم من مدرسة باريس بمزج الشكل للشخصية البشرية في المنحوتات الإفريقية مع أنماط الرسم المستمدة من أعمال ما بعد الانطباعية لسيزان وغوغان.
فكانت إحدى أكثر لوحات بيكاسو إثارة للجدل وليدة هذه المرحلة الانتقالية.
صورت اللوحة خمس نساء عاريات بملامح متجهمة، حيث تم تفكيك أجزائهن الجسدية وإعادة تمثيلها بأشكال حادة الزوايا، أما وجوه النساء فانقسمت إلى جزئين مثّل كل منها أسلوبًا فنيًا مغايرًا.
فالجزء الأيسر مثّل بالأسلوب الأيبيري لإسبانيا، بينما يظهر الشكلين على اليمين بملامح مشابهة لقناع إفريقي؛ فأعطتها أبعادًا ثلاثية.
Demoiselles d’Avigno عندما ظهرت لأول مرة، كان الأمر كما لو كان عالم الفن قد انهار وتم التخلي عن الشكل والتمثيل المعروفين تمامًا.
ومن ثم سميت اللوحة الأكثر ابتكارًا في تاريخ الفن الحديث، وبالمحصلة أدت الأفكار الرسمية التي تم تطويرها خلال هذه الفترة إلى فترة أكثر نضوجًا وهي الفترة التكعيبية.
*التكعيبية (١٩٠٩-١٩١٨م)
كان لتأثير كل من "بول سيزان" و"هنري روسو" على بيكاسو وفنه أن يضعاه في النهاية على بداية طريق التكعيبية.
حيث قام بيكاسو بتفكيك اصطلاحات المنظور التي سادت فن عصر النهضة، واستخدم ألوانًا محايدة بشكل أساسي؛ متبعًا أسلوب "حورج براك" ومستندًا إلى أنها تفكك الأشياء وتحللها من حيث أشكالها.
في هذه الفترة غيّر بيكاسو اتجاه الفن لأجيال قادمة من خلال ما يعرف بتقنية "الكولاج".
الكولاج (الذي يعني لصق) هو نوع من الفنون البصرية التي تعتمد على قص عدد من المواد المختلفة ثم إعادة لصقها معًا منتجة بذلك الشكل عملًا فنيًا جديدًا.
تؤكد تقنية الكولاج هذه على الاختلافات في الملمس وتطرح سؤال ما هو حقيقي وما هو وهم في الرسم.
من خلال التباين في طبيعة المواد المستخدمة من حيث الألوان والأشكال والملمس، نظرًا لتأثير هذه العوامل على بعضها وخاصة اللون؛ فهو ذا أهمية بالغة في التأثير على الأشكال حيث تصبح أكثر اتساعًا أو أكبر حجما، فإنه يتم لصق الأشياء غير المطلية مثل: الصحف أو أغلفة التبغ على الأقمشة الملونة.
*الكلاسيكية الجديدة والسريالية والنحت (١٩١٩-١٩٤٥م)
-الكلاسيكية الجديدة
كان للرحلة التي قام بها بيكاسو لإيطاليا في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى الأثر الأكبر في إعادة إنتاج بيكاسو لأعماله بأسلوب كلاسيكي جديد.
تركت هذه الزيارة في وجدان بيكاسو الفنان أثرًا انعكس لاحقًا فيما أُطلق عليه ب "عودته إلى النظام".
امتازت رحلته إلى إيطاليا بمعاينته كمًا هائلًا من التنوع الفني؛ فشاهد هناك المجموعات الشهيرة للنحت العتيق في الفاتيكان، والمتحف الأثري في نابولي ونظر إلى الكثير من الرسم والفسيفساء الرومانية في بومبي وهرقلانيوم وأيضًا في متحف نابولي، ورأى الكثير من فن عصر النهضة في كل من فلورنسا وروما.
وتبعًا لهذا وعلى مدى السنوات التي تلت ذلك، ظهرت ذكريات الفن التي شاهدها في إيطاليا في لوحاته ورسوماته التصويرية، فلم يكن قرار عودته قرارًا فكريًا تمليه المناقشات النظرية المتداولة في باريس آنذاك، بل كان مدفوعًا بشعور بيكاسو باتصاله الشخصي بالأعمال الفنية التي كانت جديدة له، وبشعوره المبهج بالاكتشاف والاعتراف.
في عام ١٩١٩م، تزوج أولغا وبيكاسو، وفي هذا التوقيت أخذت حياة بيكاسو منعطفًا جديدًا تمثل في البدء في دوائر اجتماعية مختلفة، لا شك أنه بسبب تأثير أولغا.
اللقاءات الفوضوية التي عقدها بيكاسو مع أصدقائه الفنانين تغيرت تدريجيًا إلى حفلات استقبال رسمية.
تغيرت صورة بيكاسو عن نفسه أيضًا، وانعكس ذلك في الأسلوب الأكثر تقليدية الذي تبناه في فنه، والطريقة التي استخدم بها بوعي التقاليد الفنية والتوقف عن الاستفزاز.
-السيريالية
وانتقالًا إلى عشرينيات القرن العشرين، تأثرت أعمال بيكاسو بكتابات عالم النفس "سيجموند فرويد".
والحركة الأدبية والفكرية والفنية المسماة السريالية التي سعت إلى ثورة ضد قيود العقل العقلاني، وبالتالي رأوا أن قواعد المجتمع كانت قمعية.
في عام ١٩٢٥، أعلن الكاتب والشاعر السريالي "أندريه بريتون" أن بيكاسو واحد منا )Révolution provéaliste) المنشور في Le Surréalisme (et) la peinture في مقاله
(Les (Demoiselles d’Avignon) تم استنساخ لأول مرة في أوروبا في نفس القضية، ومع ذلك عرض بيكاسو الأعمال التكعيبية في أول معرض سريالي جماعي في عام ١٩٢٥م.
إن مفهوم "الأتمتة النفسية في حالتها النقية" المحدد في "بيان الاستسلام" لم يلقَ إعجابه مطلقًا؛ حيث قام في ذلك الوقت بتطوير صور جديدة ونهج رسمي للتعبير عن نفسه عاطفيًا، والمثال النموذجي هو:
لوحة الراقصون الثلاثة ١٩٢٥م، حيث أن السريالية أعادت فقط جذب بيكاسو إلى البدائية والإثارة الجنسية.
النحت
جاءت سمعة بيكاسو كنحات رئيسي من القرن العشرين فقط بعد وفاته؛ لأنه احتفظ بمعظم منحوتاته في مجموعته الخاصة.
ابتداءًا من عام ١٩٢٨م، بدأ بيكاسو في العمل في الحديد والصفائح المعدنية في "استوديو خوليو جونزاليس" في باريس، ثم في عام ١٩٣٠م حصل على قصر شمال غرب باريس، حيث كان لديه مساحة لاستوديوهات النحت.
سنواته الأخيرة
في سنواته الأخيرة ابتعد بيكاسو عن الرسم، واتجه في اتجاهين متعاكسين؛ نحو النقش والنقوش خلال فترة سبعة أشهر في عام ١٩٦٨م، ووحده قام بعمل ما يقرب من ٣٥٠ طبعة!
إرث بابلو بيكاسو
يُعد بابلو بيكاسو أحدَ أكثرِ الفنانين شهرةً في القرن العشرين؛ فقد أحدثَ تأثيرًا كبيرًا خلال حياته، وصُنِّف فنه بأنه فنٌّ متحررٌ من قيود الماضي، وذلك بفضل رؤيته المتفرّدة للحداثة التي استطاعَ من خلالها أن يتوصّلَ لأسلوب فنيٍ جديدٍ؛ إذ لم يكن مقيدًا بحدودٍ أسلوبيّة معينةٍ كبعض الفنانين المشهورين آنذاك مثل "هنري ماتيس" و"جورج براك"، مما جعله مُعرضًا للانتقاد وسوء الفهم، إلا أنّه وفي ثمانينيّات القرن الماضي حظيت لوحاته بالتقدير والاهتمام، وأحدثت تأثيرًا كبيرًا على الفنّانين الصاعدين وقتذاك.
سنواته الأخيرة ومماته
اقتصر بيكاسو على رسم البورتريه باستخدام ألوانٍ مبهجةٍ في الفترة الأخيرة من حياته، وقد لاقت هذه الأعمال الانتقاد، وعُدّت أعمالًا ضعيفة نسبةً لأعماله السابقة، إلا أنّها تلقّت القبول والتّرحيب فيما بعد، كما اهتمّ بتجديد بعض اللوحات الكنسيّة الشهيرة بأسلوبه الخاصّ، مثل: لوحات نيكولا بوسان، ودييغو فيلاثكيث، وإل غريكو، وصنعَ العديدَ من التّماثيل الخزفية والبرونزيّة، وكانَ يميلُ إلى الابتعاد عن الشّهرة في ذلك الوقت، ومن الجدير بالذكر أنّه في عام ١٩٦١م تزوّجَ من "جاكلين روكي"، وتوفيَ بنوبةٍ قلبيّةٍ عام ١٩٧٣م في جنوب فرنسا، وكانَ يبلغ حينها واحدًا وتسعين عامًا.
المصادر
https://www.biography.com/artist/pablo-picasso
https://youtu.be/7MsvhDn5ieohttps://www.masterworksfineart.com/artists/pablo-picasso/blue-periodhttps://www.britannica.com/biography/Pablo-Picasso/The-Picasso-myth#ref59642
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق